جاري تحميل ... حديث الصباح

إعلان الرئيسية

آخر الأخبار

إعلان في أعلي التدوينة

يكتبها اليكم الكاتب  الدكتور هاني بدير

: السمات الصوتية والدلالية في قصيدة " ويبقى الشوق...! " ، للشاعر : العربي عمران :

ومهما العمرُ قدْ مَرّا 

وحالَ الزرعُ واصْفرّا

سيبْقى دائمًا قلْبي بحُبّ الوردِ مُخْضَرّا

يَهَشّ لرؤيةِ الأزهارْ..

يسوقُ الأنسَ للأطيارْ

ويضحكُ كلمّا مرتْ فراشاتٍ من الأنوارْ

سيبقى داخلي طفلٌ يُغنّي للنّدى حُرّا

*

سيبقى داخلي شوقٌ

إلى أمّي

تشجعُنا تنادينا: ألا هُبُّوا

تجمِّعُنا ويكفينا صفاءُ الروحِ والحُبُّ

بدفءِ عطائِها نحْيا به نقتاتْ

ويشبعُنا الرضَا حتّى ولو بفُتَاتْ

لأجلِ عيونِها دومًا تفيضُ عُيونُنا بِشْرا

*

سيبقى داخلي شوقٌ..

لعَوْدِ أبي.. لصوتِ أبي .. لحِضْنِ أبي

إذا ما عادَ مَلْهُوفًا كما نَهْوى

ومعْهُ رقائقُ الحَلْوى

فيجْمَعُنا ويُسْمعُنا

حكايا روحِهِ النّشوى ويبْسُطُ ليلَنا نَجْوَى

ويمسَحُ في محبّتهِ دموعَ حياتِنا الحَرّى=

سيبقى داخلي شوقٌ

لأصْحابي وأحْبابي

هنا يومًا.. تلاعبْنا، هنا يوما.. تعاتبْنا

هنا يومًا.. تضاحكْنا تشاركْنا رغيفَ العيشْ

هنا يومًا.. تسللْنا تحركْنا لبعضِ الطيشْ

هنا يومًا.. حفرْنا وُدّنا نَهْرا

*

سيبقى داخلي شوقٌ

إلى الأستاذِ في الدّرسِ

وبذرةِ أولِ الغرسِ

نردّدُ كلُّنا كالنحْلِ من خَلْفِهْ

وما أحدٌ يفكّرُ قَطُّ في خُلْفهْ

يعَلّمُنَا ويُطْعِمُنا منَ الأخْلاقِ والتّقْوَى

لنصبحَ بَعْدَها أرْقَى .. ويصبحَ عُودُنا أقْوَى

ملاذِي كان أُسْتاذي أَفِرُّ إليهِ منْ جَهْلي

فيرشدُني علَى مَهلِ .. ويُوصِي بالهُدَى أهْلِي

لذاكَ أحبّهُ رغَبًا.. لذاكَ أُجِلّهُ رَهَبًا

وأحفظُ فضلَهُ الدَّهْرا...!

*

سيبقى داخلي شوقٌ

لآلامٍ وأحلامٍ

لآلافٍ من الذّكرى..!

ونبدأ بطبيعة البناء الفني للقصيدة وهو على النحو التالي :

ثم نتناول الصورة الشعرية والموسيقى الشعرية ، والسمات الأسلوبية المهيمنة في كليهما ، وكل هذا بشيء من الإيجاز ، فالمقام لا يسمح بالتفصيل ... :

أولاً : البناء الفني ويشمل ( العنوان – المطلع – الخاتمة )

1-العنوان :وأول ما يطالعنا في النص عنوانه ، والعنوان وافدٌ على الشعر العربي من الشعر الغربي ؛ فالعرب كانوا لا يُعنونون قصائدهم ، ومع موجة التأثير والتأثر والاتصال بالوافد الغربي ، بدأ الشعراء العرب في اختيار العنوان المناسب الدال على فكرة القصيدة ، بل اهتموا به كثيراً باعتباره العتبة الأولى التي تجذب المتلقي ، وتؤثر فيه ... ، من هنا اختار شاعرنا عنوان قصيدته ( ويبقى الشوق ) مكونا من جملة فعلية ( فعل + فاعل ) ، وإذا كان الفعل مضارعاً يشدُّك إلى الحاضر والمستقبل ، إلا أن الفاعل ( الشوق ) يُلقي علينا وعلى الفعل ظلال الماضي ، على اعتبار أن الإنسان لا يشتاق إلا لماضٍ تولَّى بكل ما فيه من ذكريات ، فليس هناك اشتياق للمستقبل بل خوف منه ، ومن مفاجآته ، هذه هي طبيعة النفس البشرية ، فالعنوان بهذا البناء الفعلي المتناقض ( حاضر ومستقبل / ويبقى + الشوق / الحنين للماضي  ) يعلن للقاريء منذ البداية مضمون القصيدة ، وما يحتويه من صراع بين شوق الشاعر لماضٍ حلو لذيذ تنعم فيه الذات الشاعرة بذكرياتها الدفيئة الجميلة ، وحاضر مرير ( باقٍ ) لا يمكن تغييره يعيشه دون الحضور الفعلي للأشياء التي تُشْعره بالسعادة والدفء والحميمية مثل وجود الأم والأب والمعلم ... لذا يمكن القول أن الشاعر أجاد اختيار عنوان نصِّه الدالّ والمُعبِّر عن مضمون قصيدته

2-         المطلع والخاتمة :

حرص شعراء العربية منذ القِدم على اختيار بداية / مطلع النص وخاتمته ، وعَدُّوا هذا من دلائل البيان ، والفصاحة وحُسْن التركيب ، على اعتبار أن المطلع هو البداية الأولى التي تقع في سمْعِ المتلقي ووجدانه ، والخاتمة هي آخر ما يقع في سمعه ووجدانه أيضاً ، بل يجد فيها المتلقي تلخيصاً جيدا لفكرة النص ، وتتضمن حكمة أو تشبيهاً حسناً .... وما بين البداية والخاتمة يقع مضمون النص وفكرته الرئيسة ، وقد مهَّد الشاعر لنصه بمطلع حسنٍ يبرز فيه عدم اكتراثه بانفراط عقد العمر ، وما يخلفه هذا من همٍ ونكدٍ عند الكثيرين ، فالشوق ما زال يتملَّكه إلى ذكريات طفولته الرغيدة ... ثم يقسِّم النص إلى ستِّة مقاطع ، يضع مطلعاً لكل مقطع ، مُعتبراً إيّاه محطة ينطلق منها ؛ ليبث حنينه لتلك الأيام المنصرمة بما فيها من آلام وأحلام وذكريات ، وكان مطلع كل مقطع هو ( سيبقى داخلي شوقٌ )

، وهذا ما يتبين بجلاء من خلال مقاطع القصيدة وفكرتها الرئيسة :

-           ففي المقطع الأول من 1 : 7 يبين دواخله

-           وفي المقطع الثاني من 8 : 14 جعله لأمه

-           وفي المقطع الثالث من 15 : 21 جعله لذكرياته مع أبيه

-           وفي المقطع الرابع من 22 : 27 جعله لأصحابه

-           وفي المقطع الخامس من 28 : 38 جعله لذكرياته مع أستاذه ومعلمه

وفي المقطع السادس من 39 : 41 جعله لآلامه وأحلامه التي لا تنتهي ...

  وإذا كان الشاعر أحسن اختيار مطلع مقاطعه الشعرية ؛ فإنه كذلك أبدع في حُسْن ختام نصه ، حيث جاء مُتصلاً بفكرة النص الكلية : الشوق والحنين للذكريات ، مفتوحاً من الناحية الدلالية على ما يمكن أنْ يقال وما لا يمكن أن يقال ، فجاء ختاماً مكتنزاً ، موجزاً ، يحمل لغة الإصرار والتحدي على بقاء ذلك الشوق الجارف إلى ماضيه في داخله ... :

سيبقى داخلي شوقٌ

لآلامٍ وأحلامٍ

لآلافٍ من الذّكرى..!

ثانياً : الصورة الشعرية :

     تُعد الصورة إحدى الركائز الأساسية في بناء الشعر ، ويلعب الخيال دوراً رئيساً وحيوياً في تشكيلها ، فالمبدع لا يرى الأشياء كما يراها الآخرون ، إنه يُعيد صياغة واقعه تحت وطأة الإنفعال الآني نحو أمرٍ ما ، حادثة ما كانت لها أبلغ الأثر في مشاعره وعواطفه ، فتأثّر ، وانفعل ، وعبَّرَ من خلال تجربة شعرية متكاملة البناء والتركيب ، وشاعرنا وقع تحت تأثير الحنين للماضي ، واشتاق له أيما اشتياق ، فانفعل به وتفاعل معه حتى تبلورت تجربة شعرية ذاتية تعكس حالة الذات الشاعر إزاء مكونات الماضي وتفصيلاته .... 

وقد جاءت صور النص بسيطة غير مركبة فنياً ، قليلة ؛ بسبب الشوق الجارف الذي أخذ الشاعر لماضيه ، لم يترك له الشوق مساحة تصويرية يُشبع فيها كل بيت ، أكثر من هذا ، بمعنى أنه يعْدو ويلهث في مارثون ( الصعود للماضي ) ، ليس لديه وقت كاف للإكثار من صوره التعبيرية ، فحروف الذكريات والآلام والأحلام سيَّالة على قلمه ، الدفقات الشعورية الهادرة ترجمت تجربته في الشوق بسرعة حدَّتْ من صوره وأخيلته ،  فاكتفى من الصور الجزئية بالقدْر الذي يعكس هذا الشوق ، ومن هذه الصور :

-           التشبيه كما في : نردّدُ كلُّنا كالنحْلِ من خَلْفِهْ ، فالشاعر في هذه الصورة التشبيهية لا يبتعد عن واقعه بل يعقد صِلةً بين واقعَيْن : واقع التلاميذ وهم يرددون خلف معلمهم ، وواقع دوِيّ النحل ، وصفة المشابهة في الواقعين واحدة ... 

-           الاستعارة كما في :

  ( حكايا روحِهِ النّشوى ويبْسُطُ ليلَنا نَجْوَى - ويمسَحُ في محبّتهِ دموعَ حياتِنا الحَرّى - حفرْنا وُدّنا نَهْرا - وبذرةِ أولِ الغرسِ - وأحفظُ فضلَهُ الدَّهْرا- ملاذِي كان أُسْتاذي أَفِرُّ إليهِ منْ جَهْلي - يعَلّمُنَا ويُطْعِمُنا منَ الأخْلاقِ والتّقْوَى ) ، فالمشبه به محذوف دائما في الاستعارة المكنية كما في الصور السابقة ، فتنتاب المتلقي نوبة من القلق والرغبة في إشباع ( الناقص ) لديه / في الصورة ، فيظل يبحث حتى يجد المحذوف فتستقر نفسه وتهدأ ... وظهرت البراعة البيانية في جعْلِ الود نهراً يحفر ، والعلم الأوَّلِي بذوراً تُغرس ، والفضل كنزاً يُحفظ ...

وهذا التوظيف الفني للصورة وضعها في إطار تجربة الشاعر ، دالَّة عليها ، مؤثرة بشدة في نفس المتلقي  ؛ ومن ثم لا يُنظر للعنصر التخييلي في القصيدة على أنه دخيلٌ عليها ، أو مفروض عليها من أجل التحسين والتزيين " واستكمال أدوات بناء النص " ، بحيث يمكن القول أن الشاعر استخدم كل صورة في موضعها المناسب لها ؛ لخدمة الغرض العام للنص ، أي أنه زاوج  ببراعة بين صورة الجزئية وتجربته في رحلة الشوق إلى الماضي ....

 وربما يكون هذا " التفكير العميق في اختيار الصورة " هو الذي حدَّ كثيراً من الانسياب الخيالي الذي يمكن أن تمتليء به مثل هذا النوع من القصائد ..........

 

 

ثالثا : الموسيقى :

     العُنصر الموسيقي من أهم اللبنات المْكوِّنة للنص ، لما له من دور بارز في تحقيق جماليته ، وللتأثير البالغ الذي يتركه في المتلقي ؛ لذلك كانت العناية به كبيرة من قبل المبدعين والنقاد على حدٍّ سواء

وقد عُرف الشعر العربي بمقياسٍ لجودته ، مُتمثلا في الوزن والقافية – عنصريْ الموسيقى الخارجية - ، فهما حدٌّ يُعرفُ من خلاله جيد الشعر من رديئه ....

وتنقسم الموسيقى / العنصر الصوتي قسمين : خارجية ( وزن وقافية ) + داخلية ( طباق – مقابلة – تكرار - جناس .... )

وسوف نتناول هذا بإيجاز شديد لأن المقام لا يسمح بالتفصيل ....

أ‌)          الموسيقى الخارجية :

     أما الوزن فهو مجموعة زمنية متساوية ومكررة يتكون منها البيت الشعري وقد سُميت بالتفعيلات ، وهذا التساوي والتكرار لتلك التفعيلات يُكسب النص إيقاعاً ونغماً تطرب له الآذان ، وتسْتروِح به النفوس ، ويعبِّر عن حالة الشاعر النفسية إزاء موقفٍ ما قد عاشه وتفاعل معه في واقعه الحقيقي أو في واقعه المُتخيَّل .... 

وقد اعتمد الشاعر وزن / بحر الوافر لقصيدته ، وهو من البحور التي تفيض بحركاتها الكثيرة على الملفوظ الشعري ، لذلك كان من أشهرها وأكثرها استخداماً ، ويتكون من تفعيلة واحدة ( مفاعلتن //0///0 ) تتكرر ست مرات في البيت ، وهي من التفعيلات السباعية التي تتكون من عدة مقاطع صوتية تبدأ بوتد مجموع //0 ثم سبب خفيف /0 ، ثم سبب خفيف /0

يصيبها القطف وجوبا وهو علة تصيب آخر العروض والضرب حيث تجتمع علة الحذف أي: حذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة ) مع زحاف العصب أي ( تسكين الخامس المتحرك ففتحول مفاعلتن إلى مفاعي ثم إلى التفعيلة المشهور فعولن ، فيكون شكل البيت في الوافر:

مفاعلتن مفاعلتن فعولن            مفاعلتن مفاعلتن فعولن

وقد نوع الشاعر في استخدامه لتفعيلات الوافر بكل إمكاناته وطاقته الإيقاعية ، فاستخدم 119 تفعيلة على النحو التالي:

مفاعلْتن بتسكين الخامس المتحرك ثمان وسبعين مرة ( 78 ) ، بينما جاءت ( مفاعلتن ) أربعة وثلاثين مرة ( 34 ) ، في حين استخدم تفعيلة ( مفاعلْتان ) ست مرات ( 6 ) ، وتفعيلة مفاعلَتان مرة واحدة .

  إذن لقد نسج الشاعر خيوط شوقه للماضي من خلال إيقاع الوافر ، ولغةً راقصة مُبهِجة سَلِسة تسرق المتلقي خلسة إلى ماضيه هو ، عبر ماضي الشاعر الذي عبّر عنه من خلال محطات أو وقفات أساسها الشوق ، فينطلق من وقفة شَوقٍ إلى أخرى ، أو من جرعة شوق إلى جرعة أخرى ؛ لِتستمر دفقاته الشعورية السيَّالة تجْري مجرى الماء العذب الرقراق تحكي تفاصيل الحنين على أنغام وإيقاع البحر الوافر السّيّال بحركاته الكثيرة ...   

     وأما القافية فهي تلك الحروف التي يلتزمها الشاعر في آخر البيت الشعري ، تبدأ من آخر حرف ساكن في البيت إلى أول ساكن سبقه مع الحرف المتحرك الذي قبل الساكن .... ، وهي كالوزن في فِعْلها الإيقاعي في نفس المتلقي الذي ينتظرها كخاتمة موسيقية ، ودلالية مُتمِّمة لمعنى البيت ، ومحافظة على ترابطه وتماسكه الدلالي والصوتي ، وقد تنوعت أشكالها في تجربة الشاعر مع الشوق ؛ لتدل بهذا التنوع على تنوُّع مستويات الشوق ودرجاته... وهذا بدوره  أعطى النص حيوية ورقصا إيقاعيا ، جذب المتلقي ، جعله متفاعلاً ، مشاركاً تجربة الشاعر " الشوقيّة " ، حيث :

           استخدم الراء المطلقة المفتوحة بألف مد بعدها ، ثم الراء الساكنة ثم يعود إلى الراء المفتوحة في المقطع الأول :

ومهما العمرُ قدْ مَرّا 

وحالَ الزرعُ واصْفرّا

سيبْقى دائمًا قلْبي بحُبّ الوردِ مُخْضَرّا

يَهَشّ لرؤيةِ الأزهارْ..

يسوقُ الأنسَ للأطيارْ

ويضحكُ كلمّا مرتْ فراشاتٍ من الأنوارْ

سيبقى داخلي طفلٌ يُغنّي للنّدى حُرّا

فــ " الحادِي " – كما يُسَمِّي نفسه – يتراقص مع سِني شوقه ، سِني حنينه لماضٍ " لذيذ " ، هو يعلم يقيناً أنه لنْ يأتي مرَّة أخرى ، وهذا هو سِرُّ التفجُّع والأنين الذي نبت الشوق في تربته ، لكنه يعتبر هذا الماضي " محطّة " يقف عندها كدَرْسٍ للمستقبل ، لمْ ينظر إليه كخيبةٍ وفشلٍ تقضم سِني مستقبله ؛ لذلك فنظرته للماضي تبني ولا تهدم ، تُعْلي ولا تُزْرِي ، فإنْ مَرّ قطار العُمر ، ووهَن الجسد ، وبَدتْ عليه أمارات الشّيب ؛ فقلبه يافعٌ بسَّامٌ كلُّه أمل وتفاؤل ، يستقبل كل يوم جديد ببسمة أمل ، بشراب حب ، بنَفَسِ أُنْس ....

           وفي المقطع الثاني يستعين بالباء المضمومة والباء المكسورة ثم التاء الساكنة ثم يختم بالراء المطلقة :

سيبقى داخلي شوقٌ

إلى أمّي

تشجعُنا تنادينا: ألا هُبُّوا

تجمِّعُنا ويكفينا صفاءُ الروحِ والحُبُّ

بدفءِ عطائِها نحْيا به نقتاتْ

ويشبعُنا الرضَا حتّى ولو بفُتَاتْ

لأجلِ عيونِها دومًا تفيضُ عُيونُنا بِشْرا

" العربي عمران / الحادي " يحْدو بحروفه رقْصَاً وطرباً في صحراء الماضي ، إبلُهُ / حروفه تتراقص حوله ، وليس كل الرقص من طرب ، ليس كل الرقص من فرح ، ليس كل الرقص يشِي بسعادة النفس ، هناك رقصٌ من وجع ، وجعُ السَّلْبِ والفقدِ ، وجعُ الشوق والحنين لصوت الأم وهي تنادي عليه وعلى أخوته ، تجمعهم في حب وصفاء حول الطعام ، لتشبعهم من دفءِ العطاء ، ويُشبعونها من فيضِ البِشْر والسعادة .... 

           وفي المقطع الثالث يستخدم الباء المكسورة مع الألف المطلقة ، ويختم بالراء المطلقة :

سيبقى داخلي شوقٌ..

لعَوْدِ أبي.. لصوتِ أبي .. لحِضْنِ أبي

إذا ما عادَ مَلْهُوفًا كما نَهْوى

ومعْهُ رقائقُ الحَلْوى

فيجْمَعُنا ويُسْمعُنا

حكايا روحِهِ النّشوى ويبْسُطُ ليلَنا نَجْوَى

ويمسَحُ في محبّتهِ دموعَ حياتِنا الحَرّى

وتصل بنا محطة الشوق إلى الأب ، عمود البيت وعماده ، وحضنه الدافيء بعد الأم ، وهو عائد في لهفة ، معه الحلْوى ، فيجمعهم حوله ، ويُطرب آذانهم بحكاياتِ يومه وأمْسه ، فتعمّهم سعادة ومحبة لا وصْف لها 

           وفي المقطع الرابع يستخدم الباء المكسورة والشين الساكنة ثم يختم المقطع بالراء المطلقة كما عوّدَنا

سيبقى داخلي شوقٌ

لأصْحابي وأحْبابي

هنا يومًا.. تلاعبْنا، هنا يوما.. تعاتبْنا

هنا يومًا.. تضاحكْنا تشاركْنا رغيفَ العيشْ

هنا يومًا.. تسللْنا تحركْنا لبعضِ الطيشْ

هنا يومًا.. حفرْنا وُدّنا نَهْرا

الأصحابُ والأحبابُ إحدى محطاته " الشّوقية " التي يتذكَّرها الشاعر ، بأماكنها التفصيلية من خلال تكراره للظرف " هنا " وبأزمانها الماضية من خلال الأفعال التي تعكس الزمن الماضي ، ثم يُوزع الأحداث / الأفعال على " لعبة الزمكان " فنجدها ( تلاعبنا – تعاتبنا – تضاحكنا – تشاركنا – تسللنا – تحركنا – حفرنا ) والأسى كل الأسى أن يجترّ الإنسان أحداثاً صارت ذكرياتٍ ، مجرد ذكريات في العقل الباطن سرعان ما تتلاشى مع سِني العمر المُتلاشية !  

           وفي المقطع الخامس يستخدم السين المكسورة والألف المطلقة مع الياء المكسورة والباء المفتوحة ثم يختم بالراء المطلقة :

 سيبقى داخلي شوقٌ

إلى الأستاذِ في الدّرسِ

وبذرةِ أولِ الغرسِ

نردّدُ كلُّنا كالنحْلِ من خَلْفِهْ

وما أحدٌ يفكّرُ قَطُّ في خُلْفهْ

يعَلّمُنَا ويُطْعِمُنا منَ الأخْلاقِ والتّقْوَى

لنصبحَ بَعْدَها أرْقَى .. ويصبحَ عُودُنا أقْوَى

ملاذِي كان أُسْتاذي أَفِرُّ إليهِ منْ جَهْلي

فيرشدُني علَى مَهلِ .. ويُوصِي بالهُدَى أهْلِي

لذاكَ أحبّهُ رغَبًا.. لذاكَ أُجِلّهُ رَهَبًا

وأحفظُ فضلَهُ الدَّهْرا...!

" قُم للمعلم وفِّه التبجيلا " عنوان المقطع السابق ، الوفاء للمعلم والاعتراف له بالفضل بعد الله تعالى من شيم الكرام النبلاء ، وقد صدع " الحادي " بهذا الوفاء لمعلمه الذي اشتاق إلى بذرة أول درسٍ له في نفسه ، وهم صغار يُرددون خلفه كنحلٍ له دوِيّ ، وللمعلم هيبته وحضوره في نفوسهم فلا يستطيع أحد من التلاميذ مخالفته والخروج نشازاً عن هذا اللحن المنسجم الذي يتخلله علمٌ وأخلاق وأدب ....

وفي المقطع السادس يأتي الختام :

سيبقى داخلي شوقٌ

لآلامٍ وأحلامٍ

لآلافٍ من الذّكرى..!

           يصل الشوق إلى محطته الأخيرة ، محطة " الاكْتناز الدلالي "  ، فالمقطع السادس رغم قِصره اللفظي

إلا أنه يفيض بالدلالة اللامتناهية ؛ بحيث يُمكن النظر إليه على أنه مقطع وَلُود ، مفتوح على آلاف من الأحلام والذكريات التي ما تزال قابعة في قلب الشاعر وحسه وفكره ، لمْ تُسْعفه إبله / حروفه الراقصة لاستيعابها ، هكذا هو المبدع الخلاَّق دائماً ، في جعبته المزيد والمزيد ؛ لذا هو أداة بناء واستقرار ورخاء لمجتمعه وبلده لا معْول هدمٍ وتخريب ، فيعلنها الحادي مُدوية : في جعبتي آلاف من الآلام والأحلام والذكريات ، وهنا تبرز أسئلة مشروعة :

-           ما طبيعة هذه الآلام والأحلام والذكريات التي لم يُدرجها الشاعر في محطاتِ شوقه ؟

-           لماذا لمْ يُعبِّر عنها ؟

-           هل هناك موانع نفسية أو اجتماعية أو اعتبارية أو ... حالتْ دون خروج هذه الأحلام إلى النور ؟

بمعنى آخر ما الضرورة التي قمعت حرية الاختيار عند الشاعر وجعلته يكتفي بالإشارة إلى بعض ذكرياته وأحلامه – في النص – ثم بصورة مُجملة يشير إلى آلاف منها في المقطع الأخير؟!!!!!!

-           ثم لماذا عبَّر عن تلك الأحلام والآلام بالنكرة ( آلام – أحلام – ذكرى ) ؟ هل ليدل على كثرتها – وهذا ما أميل إليه – أم ليقلل من أهميتها ، فلا تستحق أن تُذكر ، وهو ما لا أميل إليه ؛ فلو كان كذلك لأمْسكَ الشاعر عن ذِكرها أصلاً ، بمعنى آخر ، أنْهى رحلة الشوق عند المقطع الخامس ....

-           لماذا سيبقى الشوق بداخله ؟ هل هو مرض التعلق بالماضي والحياة في سراديبه المقيتة – وهذا ما لا أعتقده – أم سيبقى الشوق ليعلن عن طبيعة الإنسان التى فُطر عليها وهي حُب العودة للماضي ، والهروب من الحاضر البغيض ، والخوف من الآتي / المستقبل ، أم سيبقى الشوق بداخله كمحطة انطلاق لحاضر سعيد ، ومستقبل أسعد ؟!!

أسئلة مشروعة وليست مشروطة ؛ فالسؤال لا شرط عليه ولا حجْر ، إنه مفتاح العلم ، والخلْق ، والإبداع أضعها بين أيدي المتلقي ليبسط فيها القول والرأي ..........

لقد أراد الشاعر أن يزرع في المتلقي بذور الاستفهام والحيرة والقلق من خلال مقطعه الأخير ، وهذا أعدُّه من الحصافة الشعرية التي تخلق التشويق والإثارة عند المتلقي ، فلا تعطي كل شيء له بل تحفزه على البحث الدائم لإسكات هذا الجوع / النقص المعرفي والجمالي الذي يأكله من داخله ........

ب‌)        الموسيقى الداخلية / الإيقاع الداخلي :

     ونعني بالموسيقى الداخلية ذلك التفاعل والانصهار بين المكونات الداخلية للنص ، إنها حُسن التأليف بين حروف الكلمة ، بين الكلمات بعضها البعض ، بين الجمل والتراكيب ، لذلك فالنص الجيد يحتاج إلى صانع ماهر ، تتوفر فيه الدقة والاختيار والتأليف المنضبط بين مواد صنعته ، فإذا ما حاز النص على هذه التركيبة الماهرة في التأليف وحُسن الصياغة حُكِم له بالحُسن والفرادة والإجادة ....

ومن عناصر الموسيقى الداخلية نكتفي بما تردد منها كظاهرة أسلوبية في القصيدة مثل :

1-         التكرار:

تتعدد أنماط التكرار عند الشاعر بدْءاً بالصوت المفرد وهو الحرف ثم الكلمة ثم الجملة أو التكرار

النمطي ... وللتكرار وظيفة إيقاعية ودلالية تهدف إلى خلْق حالة جمالية للنص من حيث تأكيد معنى ما وإقراره في نفس المتلقي ، أو إيضاحه ، وغيرها من المستويات الدلالية للتكرار .... 

وقد كرّر الشاعر حرف الراء في القافية وغيرها ( 44 ) مرة ، مما أحدث إيقاعاً موسيقياً يُطرب سمْع المتلقي بسبب الجرْس الموسيقي الناتج عن تكراره ، وكرر الفعل ( يبقى ) سبع مرات ، وكرر التركيب ( هنا يوما) خمس مرات ، كما كرر جملة ( سيبقى داخل شوق ) خمس مرات ، وهذا اللون التكراري له أثر مُحببٌ إلى النفس ، كما يؤكد ما يصبو إليه الشاعر من تجربته الشعرية ، وما يريده أن يستقر في نفس المتلقي ...

والشاعر حكاء ماهر ، وصانع حذق ، يتحدث عن الماضي بلسان الحاضر ، لذا يكثر من تكرار الأفعال المضارعة ، ليصنع صراعاً في نصه بين ماض يحكيه ، وحاضر يعيشه ، مع الإصرار على استدعاء ذلك الماضي البهيج البريء العبق بشذا الطفولة ، ليضيء به حاضرا معتما مسحوقا في قبو كقطرة ماء !!

فيستخدم المضارع الدال على الحاضر والمستقبل ( 36 ) مرة ، بينما يأتي الفعل الماضي في اثني عشر موضعا فقط ( 12 ) مع أن المنطق يقول بضرورة غلبة الفعل الماضي على الحاضر لأن الشاعر يحكي عن ماضٍ ، لكنها الحقيقة التى أبرزها الشاعر في كل محطاتِ شوقه :

لابد من استدعاء الماضي لينير الحاضر والمستقبل ، وهو الذي يتمسك به الشاعر ؛ لأنه الأمل الذي يضمن استمرار الحياة ، يتضح هذا العزم من خلال العنوان نفسه ( ويبقى الشوق ) فالواو قبلها كلام تم حذفه وهو مفهوم من السياق فكأنه يقول : ومهما طال العمر ، وازدادت خدوش الزمن القاسية على صفحات أرواحنا ، وضاعت منا أشياء جميلة كانت في الماضي ، يبقى الشوق لذلك الماضي بكل تفاصيله الجميلة

2-         الجناس والقوافي الداخلية :

     وما زاد من بهجة النص وتأثيره القوي في المتلقي استخدام الشاعر للقوافي الداخلية المتجاورة مثل ( تشجعنا تنادينا – تجمعنا يكفينا – فيجمعنا ويسمعنا – أصحابي أحبابي – تلاعبنا تعاتبنا – تضاحكنا تشاركنا تسللنا تحركنا – حفرنا ودنا – الأستاذ الدرس – يعلمنا ويطعمنا – ملاذي أستاذي – آلام أحلام آلاف ) ، ومن خلال هذه القوافي الداخلية نلحظ الجناس في ( يجمعنا يسمعنا-  أصحابي أحبابي – يعلمنا يطعمنا – ملاذي أستاذي ... ) ، كما نلحظ جناس القوافي في ( نفتات فتات – نهوى حلوى نجوى – العيش الطيش – خلْفِه خُلْفه التقوى أرقى أقوى جهلي أهلي رغبا رهبا ) ، والجناس يُعد من الظواهر التكرارية التي يتوسل بها الشاعر من أجل لفت انتباه المتلقي إلى كلمتين متفقتين في الحروف ومختلفتين في المعنى ، أو كلمتين متشابهتين في الحروف ومحتلفتين في المعنى ، والمعنى الأول للجناس – الجناس التام – لم نجده عند الشاعر ، وإنما وُجد المعنى الثاني – الجناس الناقص – عنده بكثرة ، والأمثلة السابقة دليل عليه ... فهو يكسب النص وفرة موسيقية محببة للنفس ، تجذب المتلقي إليها ...

3-         الطباق والمقابلة :

وهي لون من ألوان الإيقاع الداخلي التي يتوسل بها المبدع لإغناء نصه بالموسيقى التي تجذب المتلقي وتجعله يتفاعل مع قضيته وتجربته ، إنها تضع المتلقي أمام صورتين متقابلتين ؛ ليظهر الحسن من القبيح ، والجيد من الرديء ... كما أنها توضح المعنى وتؤكده في نفس المتلقي ، فإذا وقع بين اللفظين فهو طباق ، وإذا كان بين جملتين فهو مقابلة ، ومن ذلك : ( تلاعبنا تعاتبنا – جهلي الهدى ...... ) ، فالجهل عكس الهدى ، وهذا الاختلاف والتنوع في الألفاظ يعطي ثراء للنص من ناحية الدلالة والجمالية أيضاً ........

ليست هناك تعليقات

إعلان أسفل المقال