يكتبها لكم الكاتب هاني بدير
ما أروعه من حوار ، وما أحسنه من جوار ، وما أوفى
الشّارط والمشروط عليه ، وما أصفاه من مجلس علمٍ أجمل ما يُقال في وصفه:
مجالسنا مثل الرياض أنيقة لقد طاب منها اللون والريح والطعمُ
في الليلة الأولى من ليالي " الإمتاع والمؤانسة
" جالس " أبو حيان التوحيدي " وزيره ؛ ليقص عليه أحسن القصص ،
ويمتعه بطيوب الفن والأدب ، ويتحرش بعقله ببعضٍ من علمٍ وفلسفة ...
دار حوار ماتع بينهما في أول ليلة ، استطاع فيه النابغة
( التوحيدي ) أن يؤسس للأيام الماتعة ، والأسمار اليانعة التي ستجمعه مع وزيره ،
فاشترط على وزيره – كما اشترط الخضر من قبل على سيدنا يوسف – قائلاً:
يؤذن لي في كاف المخاطبة ، وتاء المواجهة ؛ حتى أتخلص من
مزاحمة الكتابة ، ومضايقة التعريض ، وأركب جدَدَ – القول الصائب الذي لا عوج فيه
ولا التواء- القول من غير تقيّةٍ ولا تحَاشٍ ولا محاوبة ولا انحياشٍ – انقباض -
...
هكذا اشترط التوحيدي على وزيره ، تريد مجالستي ومسامرتي
إذن شرطٌ بشرط ، استجِبْ لشرطي أستجِبْ لشرطك في الإمتاع والمؤانسة ، وحُسن
المجالسة !! ، الأدنى – نظرياً – يشترط على الأعلى ، فما كان جواب الوزير ؟! كان
رده أبلغ ، وحروفه أفصح ؛ إذ قال:
لكَ ذلك ، وأنت المأذون فيه ، وكذلك غيرك ، وما في كاف
المخاطبة وتاء المواجهة ؟! إن الله تعالى – على علو شأنه ، وبسْطةِ مُلْكه ،
وقدرته على جميع خلقه – يُواجَه بالتاء والكاف ، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ
وجلالةٌ وقدْر رتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحقّ بذلك ، ومُقدَّماً فيه ، وكذلك
رسول الله والأنبياء قبله – عليهم السلام – وأصحابه – رضوان الله عليهم –
والتابعون لهم بإحسانٍ – رحمة الله عليهم – وهكذا الخلفاء ، فقد كان يُقال للخليفة
: يا أمير المؤمنين أعزك الله ، ويا عمر أصلحك الله ؛ وما عاب هذا أحد ، وما أنِف
منه حسيب ولا نسيب ، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف ، وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا
وشبهه ، ويحتسبون أن في ذلك ضَعَة أو نقيصة أو حطَّاً أو زراية ، وأظن أن ذلك
لعجزهم وفُسُولتهم ، وانخزالهم وقِلّتهم وضُؤُولتهم ، وما يجدونه من الاغضاضة في
أنفسهم ، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص ، وذلك النقص ينتفي بهذا
الصّلف ؛ وهيهات ، لا تكون الريّاسة حتى تصفو من شوائب الخُيلاء ، ومن مقابح
الزَّهو والكبرياء
فأجابه " التوحيدي " بردٍ شافٍ عليم:
أيها الوزير ، قد خالطتُ العلماء ، وخدمتُ الكبراء ،
وتصفحتُ أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم ، فما سمعتُ هذا المعنى من أحد
على هذه السِّياقة الحسنة ، والحجة الشافية ، والبلاغ المبين ، وقد قال بعض
السّلف: ما تعاظمَ أحدٌ على مَنْ دونه إلى بقدْر ما تصاغرَ لمنْ فوقه ، ولتصاغر
دواء النفس ، وسجيةُ أهل البصيرة في الدنيا والدين ، ولذلك قال ابن السّماك للرشيد
– وقد عجب من رقته وحُسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته
- : يا أمير المؤمنين لتواضُعكَ في شرفك أشرفُ من شرفك ، وإني أظن أن دمعتك هذه قد
أطفأتْ أوديةً من النار وجعلتْها برداً وسلاما ...
إن أبا حيان أراد أن يتخلص من زوائد الكلام وحشوه ،
وحروف المجاملة والمحاباة ، وكثير ما أضعنا أوقاتنا فيها ، إلى الحد الذي نعت
أحدهم خليفته بقوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وغيره الذي قال:
دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها وأقـعد فـأنت الـطاعم الكاسي
ليتنا نتباسط في القول ونتعاظم في الفعل ، حياتنا صارت
محاباة ومجاملات
وانظر لرد الوزير البليغ ، استجاب لشرط " معلمه
" رغبة منه في استخراج لآلئه وجواهره ، وهو يعلم أنه لن يتحقق ذلك في زحمة
تزيين اللفظ والعبارة ، والتكلف والتأنق ، هكذا حال المتعلم مع معلمه ؛ وإلا
" هذا فراق بيني بينك " !
يُضاف لما سبق أن رغبة الوزير من تلك الليالي المؤنسة هو
الإمتاع والسمر وتجديد النشاط بما يخفف عنه أمور الحكم ومشاكل السياسة ، وهذا لن
يتأتى مع تحسس الكلمات وزخرفتها ، والإفراط في المجاملة الفجة ...
كما يدل رد الوزير على علمه وتواضعه وإيمانه لأن الأناقة
الحقيقية والسمو الحقيقي هو فيما تحمله النفس من قيم الجمال والحق والتواضع ، إنه
يؤمن بأناقة النفس لا أناقة اللباس والطعام والشراب والحسب والنسب ... ، يتخذ من
الصحاب الأنيق المتواضع القوي : عمر بن
الخطاب ، الذي لما رأى بصيص عُجبٍ في نفسه ، صعد المنبر وألهبها بسوط الذلة والانكسار
، وحطَّ منها على رؤوس الأشهاد :
فلماذا إذن
يصعق البعض حين لم نخاطبهم بـ - أنتم -
سيادتكم – أمركم – عظمتكم .... ؟! ووالله ما هذا إلا لعجزهم وفسولتهم وضئوولتهم ،
وهذا ما لمسه الوزير باقتدار وشخّصه بمهارة كما يشخص الطبيب لمرضاه
إن الذي يشعر بالضعة والصغر يأنف من كاف الخطاب وتاء
المواجهة ، وهاء الغيبة ، ويحتاج دوماً إلى عملية تعويضية كما يطلق عليها علماء
النفس
ليتنا نتعلم ، وننفض غبار المديح الفارغ عن كاهلنا حتى
نرتقي ...
أنتَ عظيمٌ بنفسِك ، بما وهبه الله تعالى لك ، امْلأ ما
بين جنبيك بهذا ، لا تنتظر احتراماً من أحد ، فالاحترام لا يُطلب من الناس بل
تسْتدعيه شخصيتكَ أنت ، في مقدورك أنت أن تفرضَ شخصيتك بأدبكَ ، بعلمك ، بحسن خلقك
، بتجاربك في الحياة ، اعلم أن الذين يُسْبِقون اسْمك بمئات الألقاب قد سبقوا اسم
غيرك بها ، أنت في نظرهم مثل مَن سبقك ، وقد تكون أقل !! ، فلا تظنّ بمديحهم الفارغ
هذا أنك أتيت بما لم يأتِ به الأوائل !! ، إنما هم يتملّقون لكَ ابتغاءَ منفعة
يرجونها منكَ ، فإذا كانت نفسك كريمة ، عزيزة لا تشْتهِ ( دستة ألقاب ) تحبُ
سماعها قبل اسمك ، فمن المدح ما قتل ، ومن الألقاب ما قتل أيضا ، اكتفِ بما اكتفى
به وزير " أبو حيان " فإنه أرفع منك شأنا وجاهاً وعلما ...
كما أن حجمكَ عند الله تعالى لن يكون عظيما بفضل هذه
الألقاب والنياشين ، إنما بحبه سبحانه وتعالى لك ، وبحب الآخرين ، وبعملك الصالح ،
ستموتُ وتموت معك الألقاب ، لن يتذكرها أحد ، لكنّ الذي لن يموت هو فِعْلكَ الحسن
، وعطاؤك اللامحدود .....
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.