جاري تحميل ... حديث الصباح

إعلان الرئيسية

آخر الأخبار

إعلان في أعلي التدوينة

الكاتب الكبير   - صبري الموجي 
 

لم يبق إلا سوادُ الليل، وتنطلق رحلتُنا المدرسية إلي مدينة الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط؛ لنستمتع بشواطئها الذهبية، وبيوت الرمال – التي يأتي الموج فيدك حصونها وتصير أثرا بعد عين، بل ويزول الأثر أيضا – ونفرح بمداعبة الأمواج و(وشوشة الأصداف) دون أن نعرف ماذا نقول لها، ونستأجر قوارب مطاطية تحملنا علي صفحة الماء إلي داخل البحر بعيدا عن الضوضاء والبشر لننعم بزرقتي الماء والسماء، وسقوط الشمس عند الغروب في صفحة مياه البحر الواسعة.

وحيث إنها سويعاتٌ قليلة بيني وبين تلك الأُمنية المرومة، أسرعتُ إلي (حصّالة) نقودي، التي هي عبارة عن كوز من الصفيح به فتحةٌ من أعلي، اعتدتُ أن أسقط فيها ما أدخره من نقودي انتظارا لهذا اليوم الحافل، وأخرجت ما فيها بعد تحطيمها بـ( أجَنَة) وشاكوش، وأسرعت لشراء : (البيض، والجُبن، والحلاوة الطحينية)، وأحضرت مع هذا (كيسا) من الفينو كُنتُ قد حجزته قبلها بيوم مخافة أن ينفد، وساعتها سأُرغم آسفا علي الخبز البلدي.


في محل البقالة أنفقتُ كل نقودي ثقةً بأنني سآخذ مصروف جيبي من والدي، ثم أعود في خلسة وآخذه من أمي أيضا، بعدما تُوصيني قائلة : (لا تُخبر أباك وأخواتك)، وبهذا سيتوافر معي مالٌ كثير أضمنُ به رحلة سعيدة؛ لأنني سأشتري كل ما أشتهي، ولن أُحرم من أي لعبة تقع عليها عيني مادام الجيب عامرا.

أحضرتُ كل مُستلزماتي، ودفعتها لأختي (ثناء) لتجهيز السندويتشات، وجلست أراقبها حتي لا تطيش يدُها وتأكل مما اشتريتُ شيئا، فكنت شبيها بحارس نوبتجي جلس يُكافح النعاس مخافة هروب اللص.

أعدتْ أختي السندويتشات ولفّتها في أكياس من (النيلون) ودستها بحقيبة ملابسي، وتأكدتُ بنفسي من إحكام غلق الحقيبة، ووضعتُها تحت سريري مخافة أن تعبثَ بها يدُ عابث.

 

في حجرة النوم مكثتُ أكافح من أجل أن تغفو عيناي ولو ساعة واحدة، وهيهات لي أن أنام، إذ إن الفرحة والانتظار طيّرا النوم من عيني، وظللت أترددُ بين السرير والنافذة أُراقب طلوع الفجر الذي طال انتظاره، فتمنيت أن أكون جراحا أخرج الفجرَ من رحم الليل الأسود البهيم.

بطيئا انجلي الليل، فقمتُ في عجل واستبدلت ملابسي، وصليت الفجر وحملت حقيبتي علي ظهري، وقرعت باب حجرة نوم والديّ لأودعهما وأخواتي قبل الخروج، خاصة أنها المرة الأولي التي سأغيبُ فيها عن البيت أسبوعا كاملا.


بعد مصافحة الأهل والاستماع إلي توصيات الوالدين، التي لا أنكرُ أن شرود ذهني ولهفتي للخروج جعلاني أتلقاها بـ(ودن من طين وأخري من عجين) فلم يعلق بذهني منها شيء.

قصدتُ الشارع أُوسع الخطي لأصل إلي مكان انتظار (الباص) بجوار المدرسة الابتدائية في مدخل قريتنا من الجهة الشرقية، وفي الموعد المُحدد حضر الباص، ومُشرف الرحلة من المدرسين، فنادي علي المشتركين من كشف بيده، وأجلس كلا في مقعده.


انطلق أتوبيس الرحلة يُسابق الريح، وشرعنا نردد أغنيات تُعبر عن فرحتنا، التي عكرها صوتُ المشرف (النشاز)، الذي أخذ يُغني بصوت مبحوحٍ كرهنا بسببه الغناء والطرب، حيث أخذ يُردد كلماتٍ تفتقر للمعني والذوق تقول: ( أنا الوابور، أنا الوابور أسود وغطيس، واللي أدوسه يموت فطيس حتي ولو كان شيخ البلد، فيرد (الكورال من التلاميذ وهو يهز رأسه) : (حتي ولو كان شيخ البلد)، فيستمر المشرف في ترديد كلمات الأغنية ونتظاهرُ بالإعجاب بها، فينتفخ صدره ظنا أنه أوتي صوتا نديا وحسا مُرهفا ينافسُ بهما عبد الوهاب والعندليب، بينما نحن نقول في أنفسنا ليته سكت !

وصل الباص إلي عروس البحر المتوسط، فأدهشني اتساعُ البحر وزرقة مياهه، وامتدادُ صفحته، التي عانقت مِظلة السماء عند نهاية الأفق، ليؤكد هذا التصافحُ والعناق معني السلام الذي أفسده العالمُ بصراعاته وحروبه.

وسريعا دخلنا نُزل الإقامة والمعيشة، فعرف كلٌ منا حجرته و(دولاب) ملابسه، فوضعنا به متعلقاتنا، وتناولنا طعام الغداء قبل الاستجابة لنداء البحر ومغامرات السباحة والعوم الذي كنا نجهله تماما !

كان شاطئ الشاطبي هو أول علاقتي بعروس البحر، ويبدو أن بركة هذا الولي هي التي أنقذتني والكثيرين من غرقٍ مُحقق، إذ لمس فينا حارسُ المنطقة جهلنا بالسباحة والعوم، وأننا لا نعرف من البحر إلا اسمه، فأوصي (مُشرف) الرحلة ذي الصوت الندي، بأن نبقي في مكانٍ حدّده، حيث إن مستوي الرمال فيه مُرتفع، ولا تتجاوز أمواجُ البحر فيه رُكبنا، فامتثلنا للتوجيه إيمانا بأن( أهل مكة أدري بشعابها)، وأخذنا نجري ونلعب، نداعب الموج في حذر وثقة معا؛ لأن المكان بعيدٌ عن الغرق.

ظللنا هكذا حتي جاءتنا من حيث لا ندري كرةُ قدم، وجاء صبيٌ لأخذها، فدار حوارٌ بينه وبين مُشرفنا (العندليب)، جعل الصبي يتأخر عن أمه، التي هرولت تتساءل عن سبب تأخيره، وليتها لم تأتِ، إذ كانت في إقدامها: هيفاء مُقبلة عجزاء مُدبرة.. لا يُشتكي قصرٌ منها ولا طول.

ونادت علي ابنها بصوت فيه غُنج : ( اتأخرت ليه يا ميمي)، وقالت للمشرف بعدما أسبلت له أهدابها، ونغَّمت صوتها، وأرجفت كلماتها، وسلطتْ عليه نظرة طويلة أسلبته لبه، وخلعت قلبه : أعطه الكرة يا حضرة، ففغر صاحبُنا فاه، وتلعثمت كلماتُه، ورمي الكرةَ لابنها دون أن يُحرك ساكنا، بعدما طعنته بخنجرها الماضي الفتاك.

انصرف ميمي وأمه، إلي مكان لعبهم، والذي يبعدُ عنا بمسافة قليلة، ولكن منسوب الرمال به كان منخفضا، ومن ثم لا يناسبنا، فساقنا المشرفُ إلي ذلك المكان المشئوم سوقَ النعاج، التي سارت أمام الراعي تهزُ أعناقها، وتُرخي آذانها، ولا تملك قدرة مراجعته أو الاعتراض عليه ، ضاربا بتوجيهات حارس الشاطئ عرض الحائط؛ رغبة في اللعب مع ميمي، كما أظهر، ولكن الباطن يقول: ( من أجل الورد ينسقي العُليق).

أخذ المشرف بض الجسم يلعب ويلهو مع ميمي، ويختلقُ المواقف ليظفر من أمه بغمزة عين، أو حركةِ رمش، أو ابتسامة وجه، أو كلمة حانية تطفئ نار فؤاده المضطرم .

 

وفي غمرة اللهو واللعب، إذا بصافرات التنبيه تنطلق، وإذا بالبحر يُعلن عن غضبه فيرتفع موجه، ويشتد مده وجزره، كما لو كان يعترضُ علي سلوك ذلك المشرف المراهق، وبعد أن كان الموج لا يتجاوز الرُكب، ارتفع وبلغ الرقاب، بل غطاها، فخرج المصطافون منه انتظارا لهدأة صولته، وبقينا نحن ومشرف رحلتنا يعبث بنا الموج، فنفرح حينما يدفعنا للشاطئ مده، ونصرخ حين يسحبنا للداخل جزره، وصار غرقُنا وشيكا نحن ومشرفنا (صريع أم ميمي)، الذي سقط بجسمه البض الممتلئ، فكان شبيها بفرس النهر، وكاد يغرق لولا تداركته عناية الله ويد الحارس.

 

علي مسرح البحر الصائل ظللتُ أتأرجح بين المد والجزر شبيها بكرة يتقاذفها لاعبان، وفي إحدي مرات الجزر غطي الماءُ رأسي، فأدركتُ أنني هالكٌ لا محالة، واسترجعت في ذهني شريط الذكريات فتذكرتُ أبي وأمي وأخواتي وأصدقائي والسندويتشات التي (دفعتُ فيها دم قلبي)، و.....، وبينما أنا أصارع البحر خشية الغرق، وأن أصير طعاما للسمك، الذي كنتُ أتلذذ بتناوله بالأمس، استندتُ براحة يدي علي صديقٍ كان يُعاني الغرق مثلي، فعدتُ واقفا ترتفع يدي لأعلي، فلمح حارس الشاطئ أصابعي، فأسرع بحملي وإخراجي من البحر، وألقاني قُرب الشاطئ ليعود سريعا لإنقاذ غيري، فأعادني الجزرُ إلي داخل البحر مرة ثانية، فأدركني الحارسُ من جديد، وهم بإلقائي في نفس المكان الذي عُدتُ منه سابقا فاستحلفته بالله أن يحملني للرمال الجافة؛ مخافة أن يبلعني البحر مرة ثالثة، فكان لسانُ حالي : (يغرق في شبر ميّه).

انتهي اليوم بسلام، وقطعنا العهدَ بألا يتجاوز ماءُ البحر كعوبَنا بقية أيام الرحلة، وشققنا عصا الطاعة علي المُشرف الذي أفسدته علينا هيفاءُ البحر أم (ميمي).

إعلان أسفل المقال